ما بين معترك الحياة والقدر.. قصة قصيرة بقلم الكاتب والروائى محمد داود




مضت عشرة أعوام قضيتها غريباً ببلاد تبعد مئات الأميال عن وطني، فى السابق لم تكن لدى رفاهية الاختيار، ولم أقوَ على اختيار الدرب الذى أسير به، والمفارقة العجيبة أنه حينما تحققت تلك الرفاهية أصبحت أمام خيارين احلاهما مُر، إما أن أسافر بعيداً واترك وطني، أو أظل داخل حدود الوطن وحيداً بعد أن ينفض من حولى كل من أحببتهم، لذلك حسمت أمرى وسرت فى دربى مرغماً على هجر روحى وراحتى حتى لا أكون عثرة فى طريق من أحببتهم..


مرت سنوات مريرة كنت خلالها ذلك العربى الذى يُصر على التحدث بلغته الأم مع أشخاص لا يفهمون منها إلا بعض الأحرف التى لا تُكون جملة مفهومة، قضيتها غريبًا أرعى النجوم لعلى التمس فيها الطمأنينة التى غابت عنى مع رحيلى عن وطنى العزيز، كنت كثيراً اصرخ فى جزع قائلاً (لعل الأزمة قد تنفرج قريباً ) !، لكن هذا ما لم يحدث، و كنت ارتقب الآتى ولا يأتى ..


كنت ألوذ بعزلتى خوفاً من العاقبة الكَبوت لأفعال قلبى الساذج، الذى كان جُرمه الوحيد هو أنه سمح لفتاة تصغرنى بعشرين عاماً أن تطأ بقدميها محرابه المقدس، جُرم وددت لو أكفر عنه بغيابى ولكن هذا أيضاً لم يتحقق، لقد كانت ابنة جارنا والشقيقة الصغرى لصديقى المقرب، فتاة عبارة عن شعلة من النشاط الذى تدفعه السعادة فتُولد طاقة إيجابية هائلة مُعدية لكل من حولها، ولم تختار من البشر سواى أن يكون حولها، لطالما وجدتها بجانبى تدعمنى وتُساندنى دون ان أطلب، لم أدرِ من اين جاءت ولا متى تذهب، سأظل أذكر لها ذلك الإخلاص حتى أخر نفس يتردد فى صدرى ،ولكنى لن أقول هذا علانية ولن تعرفه ابداً ..

بدأت المأساة حينما آتى أخي الصغير ذو الخمسة وعشرين عاماً مبتسماً بعد أن تخرج من الجامعة وأصبح محامياً، أخذ يبوح لى عن عشقه لفتاة سرقت النوم من عينيه، لم يبح بسره لأى مخلوق رغبة منه فى أن أكون أول من يعلم عن حبه لفتاة تقطن بالمنزل المقابل لنا، منزل صديقى المقرب، والغريب أنها نفس الفتاة التى كانت سبب انزلاق قلبى نحو هاوية الحب الذى لطالما استخففت به وسخرت من المحبين، تلك الفتاة التى سرت إلى جانبها نحو نهايتنا المشتركة .

لم ادرِ ماذا أفعل وماذا أقول لأخى وهو يمد يده بهاتفه لكى أرى صورتها، وكم تمنيت تلك اللحظة ألا أكون قد احببتها، ولكنى وأسفاه كنت غارقا فى حبها حتى أذناى، ولم يكن أمامى سوى أن أقمع رغبة قلبى فى وصلها، تظاهرت بكل ما أملك من قسوة و أخبرتها أنى أحبها مثلما أحب أختى الصغيرة، وأما عن الحب والعشق فقلبى مغرم بأخرى فى نفس عمرى، وأخذت أعمل جاهداً على تحقيق رغبة أخى الصغير الذى كنت له الأخ الأكبر الذي يؤدى دور والده بعد وفاته وهو لا يزال ذو سبعة أعوام من عمره، تركت مشاعرى جانباً وفعلت كل ما يلزم لسعادة أخى، ثم عقب حفل زفافه، عبرت بوابة الحزن إلى صقيع الغربة والوحدة محملاً بذلك الحب المشئوم الذى انتهى بى إلى خاتمة مفجعة .


كنت ابتسم عندما يراسلنى أخى ويقص على ما آلت إليه الأمور فى حياتهما، وكاد قلبى أن يرقص فرحاً عندما أخبرنى فى احدى رسائله أنه سمى ابنه البكر على اسمى، أما عن أمى التى لم تكن تعترف بالتكنولوجيا يوماً، كنت أرسل إليها سلامى وتحياتى على هيئة رسالة ورقية عبر البريد التقليدى، وكنت ارفق بها الكثير من السندات المالية حتى لا تكون فى حاجة لأخى الذى زادت التزاماته المادية بزيادة عدد ابنائه، وعلى الرغم من وجود مسكن ثابت لى إلا اننى لم استلم منها رسالة واحدة على مدار أعوام طويلة، بل أنى لم أتلق أى رسالة واردة من وطنى سوى رسالة وحيدة، رسالة لم تحمل توقيع، ولكنها حملت أكثر ما يشى عن شخصية من كتبتها، حملت شذى عطر لايزال يفوح داخل روحى، عطر الانثى الوحيدة التى انغمس قلبى فى عشقها، جاءت لهجتها معادية تلومنى على صمتى الذى سرقها منى وهى تقول:

__ ” هل تذكر حبي” ؟..

لا أظن ذلك، ولكن لك أن تعلم أننى أكثر الناس شعوراً بفداحة خسارتك وسقوطك فى بئر الخيبات، بل انا الوحيدة على الإطلاق التى تعلم عن هذا الأمر، كنت أعلم أن الألم الذى يلحق بمن نحب، لابد أن يلحق بنا كذلك مهما كانت نذالة الشخص الذى أحببناه، ولكنى لم أكن أعلم أن المعرفة شيء والتجربة شيء آخر تماماً، لقد انصهرت روحى من تبعات تلك التجربة القاسية، أعترف بأنى من ذلك الفريق الذى إذا أحب دام غرامه ولم يتغير، ولكنى اختلف كلياً عن أى انثى من ذلك الفريق، الأنثى التى إذا لم تستطع نيل قلب الحبيب ذهب إلى قبرها ومرقدها الأخير وهى عذراء، لست مثلهن بل إنى لا أملك نفس قدر شجاعتهن، لقد اخترت أن أركض من فشلى ومن نفسى بدلاً من أن أعيش ممزقة القلب جراء حب لا أستطيع نسيانه، أخترت ألا أقضى عمرى هكذا فريسة لمثل تلك الذكريات المؤلمة، أعلم أنك لم تُحبنى، إنما أحببت تلك المرأة التى لم تستطع الوصول إلى قلبها، كما أنى احببتك ولم أستطع الوصول إلى قلبك، فما أقسى تصاريف القدر …”

لم أكن أعلم أن هذه الفتاة قد وهبتنى قلبها، حقاً كنت أجهل ذلك قبل أن أقرأ الحروف الباكية التى تركتها بلا توقيع وكأنها تبكى بدموع غضب مكبوت، وهذا ما يُفسر الألم الذى كسى وجهها أثناء زفافها والذى زادنى حيرة وارتباك، ولقد كانت هى المرة الأخيرة التى أراها هى وأخى وأيضاً أمى، لقد رحلت عقب حفل الزفاف مباشرة حتى أضمن الاستقرار والهدوء لحياة أخى الزوجية، فلا طاقة لى أن أرى هذا الهدوء يتبدد، ووجودى حتماً سيفعل ما لا أرغب به..


وها أنا أعود مجدداً إلى وطنى بعد سنوات من الشقاء، لكنى أشعر بحزن غامض وكأنه إعلان عن شر قد اقترب، سعدت بوجودى بالمنزل الذى يمتلئ بذكريات طفولتى وكذلك شبابى، حجز أخى طاولة كبيرة داخل مطعم شهير فرحاً بعودتى، وذهبنا جميعاً إلى هناك، وعندما استأذن وذهب يرافق أحد أبنائه إلى المرحاض، تقاطعت نظراتى بزوجته، لم تخفى عنى نظرة الغضب التى ومضت من عينيها، على الرغم من الابتسامة الباهتة التى ارتسمت على شفتيها قبل أن تميل إلى أذنى وتقول هامسة :

” هل لك أن تكون صديقى، أنا التى لا صديق لها ؟”

ومجدداً أصابتنى صدمة أقوى من التى سبقتها منذ سنوات ولم أجد ما أقوله لها، فكيف للمحب أن يعود صديقاً لمن أحبها ؟، يبدو انها كانت مُحقة حينما قالت أن غرامها دائم ولن يتغير، كما يبدو أن للقدر رأى أخر ولن يقبل أن أعيش ما بقى لى من العمر داخل بلادى إلى أن أتدثر تحت ترابها، أرى أنه كُتب على العيش غريباً والموت غريباً بأراضى باردة لا تستوعب دفء الحنان، لكى يعيش أخى وأولاده سعداء فى نعيم .

أُفضل أن يبكينى أخى، يأسف على مصيرى ويذكر أخاه الأكبر الذى ضحى بكل غالى وثمين من أجله، بدلاً من أن يلعن أخاه الذى عاد وهدم حياته غدراً، وها أنا أكتب هذه السطور بينما تُبحر سفينة حياتى مجدداً نحو غربة أصبحت مأوى لى من أنين الروح، خشية أن أقع داخل هاوية سحيقة ليس لها من قرار ،وها أنا المنفى قهراً …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *